وهناك ما قد يشكل على ما قررناه بشأن تكفير المصائب للشرك، وهو حديث
عبادة بن الصامت رضي الله عنه الصحيح: (
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ). قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذا الحديث الشرك مع كبائر أخرى ثم قال: (
فمن وفى منكم فله الجنة )، ولا إشكال في أن من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، أو دخل في دين الله تعالى ووفى فلم يشرك بالله ولم يزن ولم يسرق، بل اجتنب كل ما حرم الله، وأتى بما أمر الله به من الواجبات، لا إشكال في أن جزاءه الجنة، لكن الإشكال في قوله: (
ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب فهو كفارة له )؛ إذ قوله: (
ومن أصاب شيئاً من ذلك ) كأنه يشمل كل ما تقدم ومن جملته الشرك، وعليه فمن أصاب شيئاً من الشرك يكفر عنه بالعقوبة، سواء كانت عقوبة قدرية من المصائب، أم عقوبة شرعية كأن يقتل -مثلاً- أو يضرب وما أشبه ذلك. ولا ريب ولا شك في أن الشرك لا يدخل أبداً في التكفير بالعقوبة، ولكن كيف يجاب عن هذا الحديث؟ لقد أجاب العلماء رضي الله تعالى عنهم بأجوبة: منها: أن المخاطب بهذا الحديث هم المسلمون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخاطب المسلمين، وقرينة الحال تدل على عدم العموم. ولذا ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنَّه بايع أصحابه المؤمنين، فمبايعته صلى الله عليه وسلم من يدخل في الإسلام حديثاً شيء معلوم، لكنه كان يبايع المؤمنين أيضاً إما على الدين كله كما في هذا الحديث، وإما على نوع منه، كما بايع الصحابة رضي الله عنهم تحت الشجرة. فالمبايعة قد تحصل لهم وهم مؤمنون، والنبي صلى الله عليه وسلم يخاطبهم وهم مؤمنون، فقرينة الحال تدل على أن الشرك لا يدخل في ذلك؛ لأنه بايع أناساً غير مشركين. وهذا الجواب لا بأس به، لكن يرد عليه أنه قال: ومن أصاب شيئاً من ذلك، فيحتمل أن يقع منه الشرك، فقرينة الحال ضعيفة في هذا الجواب. وقال بعض العلماء: نحمل الشرك هنا على الشرك الأصغر، فنقول: إذا كانوا مؤمنين وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يشركوا؛ فمراده صلى الله عليه وسلم أن يبايعوه على أن لايراءوا أو يرتكبوا الشرك الأصغر، فمن ارتكب الرياء فإنه يكفر عنه إذا عوقب بعقوبة شرعية أو قدرية. وهذا الجواب فيه نظر؛ لأن الأصل أنه إذا ذكر الشرك فهو الشرك الأكبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم -وإن كانوا مؤمنين- أراد أن يؤكد لهم خطر الشرك ويبايعهم على تركه. وقد قلنا في مبحث الحكم بغير ما أنزل الله وموضوع إطلاق كلمة الكفر: إن الأصل أنه إذا وردت كلمة الكفر أو الشرك -ولاسيما في القرآن- فالمراد بها الأكبر، ويحتاج من يخرج شيئاً من ذلك إلى دليل خاص. وأما الجواب الثالث فهو جواب سهل على ضوء القواعد الأصولية، ولا غرابة فيه، وهو أن يقال: نحمل بعض النصوص على بعض، فنقيد إطلاق بعضها ببعض، ونخصص عموم بعضها ببعض، فعموم قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ومن أصاب) يخصصه قوله تبارك وتعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]. وهذا الجواب هو الذي قواه الإمام
النووي واختاره الإمام
ابن حجر رحمهما الله تعالى، ونستطيع أن نقول: إنه كالبداهة؛ إذ لا يخفى على من عرف الأدلة أن هذا يخصص ذلك، لكن العلماء الآخرين أرادوا أن يستخرجوا من نفس الحديث أنه لا يدل بالضرورة على ما قد يفهم من ظاهره، وهو أن الشرك يمكن أن يكفر عن صاحبه بمصيبة أو ابتلاء. إذاً: هذا النوع الأول من أنواع الذنوب، وهو الشرك، فـ
الشرك لا يكفر بالمصائب، والوعيد الذي جعله الله سبحانه وتعالى للمشركين في القرآن أو في السنة نافذ في حقهم ولا بد: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72].